[ ولما كانت الليلة 199 ]
قالت شهرزاد : بلغني أيها الملك السعيد،
أنه كان شابا من أبناء تونس يدعى البوعزيزي، يعمل صباح مساء ، يجر عربة الخضر . فقد حصل على شهادة عليا ، تبللت للأسف الشديد بماء البطالة. إنَّه قد تركها في رُفٍ صحبة أوراقه القديمة التي تعود إلى ذكريات سنوات الجامعة الطوال ..!!
سنوات الكد والجد ..!!
كان يصيح بصوت جهير :
" بطاطس .. طماطم .. جزر ... مقدونس ...".
وهو يجول جميع الشوارع مدينة سيدي بوزيد. فالكل يعرفه ويعرف نبل سلوكه وأخلاقه
الحميدة.
طلبت منه ذات يوم إحدى البائعات في السوق العمومي أن يمر إلى منزلها بالليل ليساعد إبنتها الصغيرة على تحضير بعض الواجبات المنزلية ، فيجيبها بنعم ، وبكل فرح وسرور وحب للمساعدة الإنسانية.
تنظر إليه شرطية باحتقار وهي تشرئب
بعنقها ، تطلعه تارة وتنزله تارة أخرى. فهي لا تعرف أنه أعلم منها ثقافة ودراسة.
وما أحسن قول الشاعر : [ من البسيط ]
حَسَّنَتْ ظَنَّكَ بالأَيّامِ إذ حَسَنَتْ
وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِه القَدَرُ
وسالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَ ْتَ بِهَا
وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الِدَرُ
يَا مَعْشَرَ النَّاسِ مَنْ كَانَ الزَمَانُ له
مُسَاعِداً فَلْيَكُنْ مِنْ رَأْيِهِ الحَذَرُ
تستفزه بكلامها وعباراتها النابية والقدحية
في حقه. تصفع وجهه يا مولاي على مرأى منالناس.
الكل يقول : " اللهم إن هذا لمنكر ، لا حول ولا قوة إلا بالله ".
قالت إحدى النساء :
" لا وفقك الله أيتها الظالمة .. كيف يعقل أن تصفع المرأة الرجل على خده..؟ "
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .
[ ولما كانت الليلة 200 ]
قالت : بلغني أيها الملك السعيد أنه قد احمر
وجهه البوعزيزي المسكين وبقيت آثار اللطمة عليه.أي ظلم أريد به يامولاي ؟ ما مشكلته.. ؟
إن مشكلته تكمن في أنه درس وحصل على شهادة عليا فلم يشتغل في الوظيفة العمومية، كغيره من الشباب المعطل .
وأنشد هذين البتين : [ من الطويل ]
يَمُوتُ الفَتَى مِنْ عَثَرَةٍ مِنْ لِسَانِهِ
ولَيْسَ يَمُوتُ المَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ
فَعَثْرَثُهُ مِنْ فِيهِ تَقْضِي بِحَتْفِهِ
وَعَثْرَثُهُ بالرِّجْلِ تَبْرَى على مَهْلِ
ثم إنه بدأ يصب البنزين على جسده وفي مرأى من الناس وسط الساحة العمومية .
إشهد أيها التاريخ على هول الفاجعة وشدة الشرارة التي ستعصف بالإستبداد والديكتاتورية .
يضرم النار في جسده ويذهب مسرعا لكي
يشهد الجميع أنه موجود ويقاوم الإستبداد
عسى أن تخمد إهانة الشرطية له، وتستريح
روحه الطاهرة بعد ثورة الياسمين .
وأنشد هذه الأبيات : [ من الطويل ]
عَسَى ولَعَلَ الدَّهْرُ يَلْوِي عِنَانَهُ
وَيَأْتِي بِخُبْرْ فَالزَّمَانُ غَيُورُ
وَتَسْعَدُ آمَالِي وتُقْضِي حَوَائِجِي
وتُحْدُثُ مِنْ بَعْدِ الأُمُورِ أُمُورُ
أشعل البوعزيزي يا مولاي ، شرارة الثورة والنصر . لقد استيقظ الشعب التونسي ومعه باقي الشعوب الأخرى ، لإسقاط إستبداد النظام ودكتاتوريته.
شهريار : فعل فعلا يا شهرزاد
تحققت هذه الثورة ؟
لست أدري يا مولاي ؟ لكن يبدو لي أن أهل تونس عندهم ستكون البداية والنهاية في الآن نفسه ، ما دامت الثورة لم تعصف ببقايا النظام السابق ، أو الفلول ..!!
يا مولاي لست أدري غريب ما وقع .
أما الدول العربية الأخرى فالحال لا يبشر بالخير. مادام الدكتاتور في مصر قد حكمت عليه المحكمة بالبراءة .
- شهرريار : ما قصة الدكتاتور يا شهرزاد ؟
هذه اللفظة إفرنجية ، فعندنا نقول الطاغية . إنّها دخيلة علينا يا شهرزاد ؟
تعجب الملك وأصر على سماع هذه القصة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .
[ ولما كانت الليلة 201]
وقالت : بلغني أيها الملك السعيد ، أن محاكمة الدكتاتور..!! عفواً الطاغية ، قد بدأت وانتهت عند مرافعة محامي المدعى عليهم من شباب الثورة :
سيدي الرئيس ،
حضرات السادة المستشارين .
إن قضيتنا اليوم هي قضية موت شباب وشابات الثورة ..!!
موت بأمر من قائد الأول للقوات المسلحة .
يقول القاضي :
محكمة ..!! أيها السادة إليكم الحكم :
حكمت المحكمة ببراءة المتهم من جميع التهم المنسوبة إليه، وعلى المتضرر اللجوء إلى القضاء .
رفعت الجلسة .
يقول يا مولاي أحد المتضررين بلغة قاهرية :
مِنَكْ للّهْ يَا ظَالِمْ ..!! أَرْوَاحِ لْغَلَابَهْ فِي رَقَبْتَكْ
لِيُومِ الدِينْ ..!!
تقول سيدة والدموع في عينيها :
رَبِنَا عَ لْمُفْتَرِي ..!! حسبي الله ونعم الوكيل فيك
يا مبارك ..!!
خرج الشباب وأهاليهم من المحكمة فإذا بأحد متشردي المدينة يركض ويقول بصوت جهير :
" إِ ثَعْلَبْ فَاتْ فَاتْ وِ فْ دِيلُهْ سَابِعْ لَفَاتْ ..!! "
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .